تركيا وطالبان- الواقعية السياسية والتعامل مع أفغانستان ما بعد الانسحاب

المؤلف: د. سعيد الحاج08.15.2025
تركيا وطالبان- الواقعية السياسية والتعامل مع أفغانستان ما بعد الانسحاب

منذ بسطت حركة طالبان نفوذها على غالبية الأراضي الأفغانية عقب الشروع في الانسحاب الأميركي، انتهجت تركيا سياسة التعامل مع الحركة كأمر واقع لا يمكن تجاهله، بل و"حقيقة" كما صرح الرئيس التركي بنفسه. وقد تجلى هذا التعامل في الإشادة ببعض تصريحات الحركة والتعبير عن أمل في إقامة حوار بناء معها، مع التحفظ حتى الآن عن الاعتراف الرسمي والمباشر بها من قبل المسؤولين الأتراك.

إجلاء القوات التركية

في الخامس والعشرين من أغسطس/آب الجاري، أصدرت وزارة الدفاع التركية بياناً رسمياً أعلنت فيه الشروع في سحب وإجلاء الجنود الأتراك المتمركزين في الأراضي الأفغانية، وبالتحديد من مطار حامد كرزاي الدولي في العاصمة كابل.

تتعامل تركيا مع المعطيات الجديدة على الأرض، وتنظر إلى حركة طالبان كعنصر فاعل ومؤثر، بل ربما العنصر الأهم في هذه المرحلة، بيد أنها تتجنب الاعتراف الصريح والمباشر بها وبسطوتها على مقاليد الأمور في البلاد. وعندما سُئل وزير الخارجية التركي عن إمكانية اعتراف بلاده بحكم طالبان، أجاب قائلاً: "علينا أولاً أن نراقب عن كثب الكيفية التي ستتشكل بها الحكومة المقبلة".

وأكد البيان الصادر عن الوزارة على أن "تركيا ستظل سنداً وعوناً للأشقاء الأفغان ما دام الشعب الأفغاني يرغب في ذلك". وبعد الإشارة إلى الجهود المضنية التي بذلتها القوات التركية في إجلاء ما يناهز 1129 مواطناً تركياً من أفغانستان خلال الأيام القليلة الماضية، أوضح البيان أن عملية إجلاء القوات قد بدأت "عقب سلسلة من المشاورات المعمقة وتقييم دقيق للوضع والظروف" الراهنة في أفغانستان، مؤكداً على أن القوات "تعود إلى أرض الوطن شامخة الرأس ومكللة بالفخر والاعتزاز، بعد أن أدت المهمة المنوطة بها على أكمل وجه".

من جهته، أوضح المتحدث الرسمي باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، أن عملية سحب الجنود قد انطلقت فعلياً، ومن المتوقع أن تكتمل في غضون 24 إلى 36 ساعة، أي قبل نهاية الشهر الحالي، وهو الموعد النهائي المحدد لانسحاب جميع القوات الأجنبية من البلاد، والمهلة التي هددت حركة طالبان باستهداف أي قوات أجنبية تبقى بعد انقضائها.

بهذه الخطوة، تكون تركيا قد تفادت أي احتكاك أو توتر مع حركة طالبان فيما يتعلق بقواتها المتواجدة هناك، خاصة وأن العديد من التصريحات الصادرة عن قادة الحركة قد أكدت على أن موقفها يتسم بالعمومية والمبدئية تجاه الوجود الأجنبي برمته في البلاد، ولا يستهدف على وجه الخصوص التواجد التركي، الذي يرغبون في إقامة علاقات وطيدة معه.

ومن الجدير بالذكر أن قرار الانسحاب قد اتخذ في خضم تصريحات متبادلة من الطرفين حول الرغبة الأكيدة في إطلاق حوار بناء ومثمر، واستمرار العلاقات الثنائية في المستقبل بما يعود بالنفع على كلا الجانبين والبلدين، بل لعل الهدف الأسمى كان الحيلولة دون تقويض أسس الحوار وتجنب هذه العقبة المحتملة.

ترقب حذر

سبق لأنقرة وأن أعربت على لسان وزير خارجيتها، مولود جاويش أوغلو، عن إدراكها العميق للتغيرات الجذرية والمتسارعة التي يشهدها المشهد الأفغاني، وتأثير ذلك بشكل مباشر على إمكانية بقاء قواتها على الأراضي الأفغانية. كما أشادت ببعض التصريحات الصادرة عن حركة طالبان عقب سيطرتها على مقاليد الأمور في البلاد، وخاصة تلك المتعلقة باحترام الحقوق والحريات العامة، والتأكيد على تغير النهج المتبع مقارنة بالفترة السابقة، على لسان العديد من المسؤولين في الحركة. إلا أنها أيضاً ما فتئت تربط هذه الإشادة برغبتها الملحة في "رؤية تجسيد حقيقي لهذه التصريحات على أرض الواقع وفي السياسات المتبعة"، وهو ما يعكس حالة من "التفاؤل الحذر" التي تتبناها أنقرة في تعاملها مع حركة طالبان، وفقاً لتعبير الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان.

إذاً، تتعامل تركيا بواقعية مع المستجدات الأخيرة، وتعتبر حركة طالبان عنصراً محورياً، بل ربما الأهم في المعادلة الأفغانية الراهنة، لكنها لا تزال متمهلة في الاعتراف المباشر والصريح بها وبسطوتها على مقاليد السلطة في البلاد. وعندما طُرح عليه سؤال حول ما إذا كانت بلاده تعتزم الاعتراف بحركة طالبان، أجاب وزير الخارجية التركي قائلاً: "يتعين علينا أولاً أن ننتظر ونرى كيف ستتشكل طبيعة الحكومة المقبلة".

في تحليل معمق لخلفيات هذا التأخير أو "التفاؤل الحذر"، يمكن رصد الأسباب الجوهرية التالية:

أولاً، حرص أنقرة على التناغم والانسجام مع موقف المجتمع الدولي، وخاصة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فيما يتعلق بالتعامل مع حركة طالبان، وتجنب الانفراد بالاعتراف بها، خاصة وأن تركيا كانت جزءاً فاعلاً ورئيسياً من قوات الناتو، وساهمت بفاعلية ضمن مهامه في أفغانستان، واليوم تسحب قواتها بالتزامن مع باقي القوات.

ثانياً، يتجلى حذر واضح في التعامل مع التصريحات الإيجابية المتعددة التي صدرت عن حركة طالبان في الأسابيع الأخيرة، والتي تهدف في جوهرها إلى إظهار الحركة في صورة مغايرة تماماً لما كانت عليه قبل عقدين من الزمن، والتخوف من أن تكون مجرد وسيلة لضمان القبول المحلي والدولي، وتسهيل العبور بالفترة الانتقالية بالمرونة المطلوبة. ولذا، فإن أنقرة لا ترغب في التسرع في الاعتراف بحركة قد ترتكب تجاوزات أو انتهاكات أو تتنكر لتصريحاتها في المستقبل القريب.

ثالثاً، تتطلع أنقرة إلى رؤية سياسات حركة طالبان على أرض الواقع، وليس مجرد تصريحات وبيانات، ولا تريد أن تمنحها "شيكاً على بياض" قبل أن يتضح المسار الذي ستتبعه الحركة، والسياسات التي ستنتهجها، والخيارات التي ستختارها.

رابعاً، تطمح أنقرة في ألا تحتكر حركة طالبان السلطة، بل أن يتم تشكيل حكومة وطنية موسعة تضم كافة الأطياف والفصائل السياسية، وخاصة التيارات السياسية التي تمثل الشرائح "التركية" مثل الطاجيك والأوزبك والتركمان. وقد أكد الرئيس التركي على انفتاح بلاده على كافة الأطراف في أفغانستان، مع إيلاء اهتمام خاص بهذه الشرائح. كما أشار المتحدث باسم الرئاسة إلى أن تشكيل حكومة شاملة تحتضن وتضم جميع المكونات العرقية والسياسية في البلاد، يمثل "امتحان اللحظة والخطوة الحاسمة" بالنسبة لحركة طالبان. وأضاف قالن أن تشكيل حكومة تحظى بمشاركة وتأييد ودعم "المجموعات العرقية والسياسية" المختلفة في البلاد، سيسهل الأمور بشكل كبير على صعيد علاقات أفغانستان مع العالم الخارجي، وكذلك على صعيد علاقات تركيا نفسها مع أفغانستان.

خامساً، تدرك تركيا تمام الإدراك أن الحوار الذي ستجريه مع حركة طالبان، والذي ربما يكون قد بدأ بالفعل، سيكون بمثابة عملية تفاوضية بين الطرفين، تهدف إلى التوصل إلى تفاهم مشترك بشأن الملامح المستقبلية للعلاقة بين الجانبين، على قاعدة تحقيق المكسب للجميع. وبالتالي، قد يكون تسرع تركيا في الاعتراف بحركة طالبان بمثابة تفريط في ورقة رابحة يمكن أن تستخدمها في "التفاوض" المرتقب.

الخلاصة

في الختام، وكما هو الحال بالنسبة للعديد من الدول الأخرى، ستتعامل تركيا مع المستجدات المتسارعة في أفغانستان بمنظور واقعي وسياسي محض، وليس لديها أي "محاذير" أو "موانع" تعيق التواصل مع حركة طالبان، إلا أنها تفضل أن يكون اعترافها وتعاملها لاحقاً مع "النظام الجديد" أو "الحكومة" التي سيتم تشكيلها، وليس مع حركة طالبان بشكل منفرد.

ومن المفهوم ضمناً أن تأخير هذا الاعتراف إلى حين تشكيل الحكومة، التي تتطلع أنقرة إلى أن تكون تشاركية وشاملة، يمثل ضغطاً من جانبها على حركة طالبان للاتجاه نحو هذا الخيار، وتجنب الانفراد بالسلطة المطلقة.

وعلى الرغم من قيام تركيا بسحب قواتها من أفغانستان، وعدم اعترافها الرسمي حتى الآن بحركة طالبان، فإن ذلك لا يعني قطع قنوات الاتصال بينهما، بل تشير التقارير المتواترة إلى بدء حوار فعلي بينهما عبر قنوات مختلفة.

كما أن ذلك لا يعني بالضرورة أن تركيا قد فقدت بشكل كامل ونهائي أي دور محتمل لها في مستقبل أفغانستان، بل ربما يكون العكس هو الصحيح، في ظل الرغبة الصادقة التي تبديها حركة طالبان في التعاون مع تركيا، وإدراكها العميق بأن تركيا تمثل منبراً مناسباً - ويبدو موثوقاً به - للانفتاح على العالم الخارجي. ولذا، فالدور التركي في مستقبل أفغانستان لا يقتصر فقط على التعاون الاقتصادي والتجاري، بل قد يمتد ليشمل المشاركة في إدارة مطار كابل الدولي، فضلاً عن المجالات السياسية والعسكرية والأمنية المحتملة.

لقد أصرت حركة طالبان على انسحاب القوات التركية باعتبارها جزءاً من قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلا أنها أعلنت مراراً وتكراراً عن رغبتها الجامحة في التعاون مع تركيا بشكل خاص، كونها "دولة مسلمة شقيقة". مما يعني أن فكرة تولي تركيا إدارة مطار كابل الدولي قد تطرح على الطاولة مجدداً في المستقبل القريب، نظراً لافتقار حركة طالبان للخبرة والكفاءة المطلوبة لذلك، مقابل الخبرة التركية العريقة والممتدة في هذا المجال، والثقة الكبيرة التي توليها حركة طالبان لتركيا أكثر من غيرها. وقد تكون إدارة المطار مدنية هذه المرة، وليست عسكرية، بيد أن هذا الأمر سَيُبَتُّ فيه لاحقاً "وفقاً للظروف والأوضاع" المستجدة، وسيكون محور حوار تركي مع حركة طالبان، وفقاً لتصريحات إبراهيم قالن.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة